السبت، 12 أكتوبر 2013

حمى مواقع التواصل الاجتماعي

الحمد لله الذي وهبني عمرا حتى كتابة هذه المقالة ، وأشكره على فضله حين أبان لي حقيقة مواقع التواصل الاجتماعي ولا شك أن فضائل ربي ونعمه لا تحصى . كان الناس في بلادنا لا يعرفون غير الهاتف الأرضي قبل عشرين عاما طريقة للتواصل الاجتماعي ، وكان محل إعجاب للنساء حيث أنهن محجوبات في البيوت وقد بعدت المنازل وترامت الأحياء بعد اندثار بيوت الطين التي كانت المرأة تعتلي سطح منزلها لتسامر جاراتها صباحا ، كما أنه كان ملاذ العاشقين والعاشقات ينتظرون سكون الليل لتلتصق آذانهم وخدودهم بسماعة الهاتف ، وخصص علماؤنا أوقاتا يجلسون فيها بجانب هذا الجهاز يجيبون على أسئلة الناس واستفتاءاتهم ، ناهيك عن المغتربين الذين يتشوقون لسماع أخبار أهليهم ووطنهم عبر نافذة الهواتف الأرضية ، ثم ظهرت الهواتف المتنقلة وانتشرت بين الناس فأصبح الواحد منهم لا يتمتع بعزلة ولا بخصوصية إلا من أبى وقليل ما هم ، وبدأ الناس بالاكتفاء بالمهاتفة بدلا من الزيارة والمكوث ، وظهر في المقابل برامج انترنتية تتيح للمستخدم التحدث بالصوت والصورة مع القاصي والداني مثل الماسنجر والسكايب والبالتوك وغرف المحادثة وما في معناها ، وكلما زادت هذه البرامج في انتشارها زاد الناس في انكفائهم الاجتماعي واقعا وتوسعهم في الاجتماع الافتراضي خلف أسماء مستعارة وخلق ذلك مجتمعات داخل مجتمعات بعيدة عن الواقع . ومع كل هذا إلا أن الأمر بقي محدودا وإن زاد حتى انفجرت قنبلة مواقع التواصل الاجتماعي وبرامجها (فيس بوك – تويتر –واتس أب – بلاك بيري وغيرها ) وقد فتن بها الخلق وانهالوا عليها تحميلا وتسجيلا ومسابقة ، حتى أن أحدهم يذهب نهاره وليله وعينه ملتصقة بهاتفه يتنقل بين هذه البرامج والمواقع وأقاربه بجانبه لم يفكر في زيارتهم أو الحديث إليهم منذ أشهر، ومنهم ما زاد العزلة حتى أصبح لا يرى أهله إلا وقت الأكل وحاله يد تأكل ويد تطرق في لوحة المفاتيح ! . وأصبح انقطاع خدمة الانترنت مصيبة المصائب ، ونكبة الفرد المنهمك في هذه المواقع والبرامج . وهنا بدأ تأثيرها يتسع حتى طال طلاب العلم في كل جوانبه ، فاستكانوا عن الطلب المحقق لغاية العلم وتنكبوا بسببها طرائق أهل العلم الطلب وركبوا بغلة الاقتيات على نتف هذه المواقع وضاع وقتهم ، ونسوا كثيرا مما حصلوا أيام الجد والاجتهاد يوم أن كانت هذه المواقع غائبة عنهم ، وحديثي هنا عنهم ، ولست بلائم سواهم كما هم فمن كان همه مضيعة الوقت والدعة ضيعه ولو وضعته في محاضن العلم وبين أهله !. وقد تمعنت في الأمر غير مرة فوجدتها مذهبة للرصانة العلمية مزهقة للوقت الثمين الذي يقضيه الباحث عن المعرفة في بطون الكتب وأمهات المراجع ، ناهيك عن تتبع السقط وما لم يرغبه السبع والمتردية والنطيحة وما أكثرهم . ولا تخلو هذه المواقع من فائدة يضعها بين يديك كرام الخلق هنا وهناك ولكنها لا تسمن ولاتغني من جوع ، ولا تقيم صلبا ولا تسقي حرثا بل هي فتات ربما أبقتك على مشارف الحياة متعلقا بوهم المعرفة . ولا أضر على شباب وشابات الأمة من التربي على ذلك الطلب الذي يظنونه ثقافة ومعرفة بل هو مكاء وتصدية ، والحق أن الإرث العربي سواء الديني منه أو الأدبي أو التاريخي والاجتماعي هو مصدر المعرفة والتأصيل بعد كتاب الله وسنة نبيه ، وما سمعنا عن عالم كابن تيمية أو بن حنبل أو بن حزم أو ابن خلدون يوما أنهم تخرجوا من مدارس تغذيهم جملا لا تزيد على مائة وأربعين حرفا ، ولا عن كتاتيب تعلمهم فن طرق نوافذ الإعجاب لكل ما يطرح دون نقد وتفنيد . ولقد عرض على الرافعي إمام الأدب في زمانه أن ينقح كتابا في شرح (أدب الكاتب لابن قتيبة ) والكتاب لعالم اللغة الجواليقي فكان يقعد كل يوم ست ساعات في البحث والتدقيق والمراجعة وإكمال ما نقص من الشعر وغيره ، وحال أحدنا يقعد على نافذة أحد مواقع التواصل الاجتماعي ويعتقد أنه بعد زمن سيكون المغير الأعظم للتاريخ . اعلم أن نفسي تضحك مني وعلي وهي تراني أتبجح بما أكتب أعلاه وتقول لي (باب النجار مخلوع ) ولكنها النصيحة لي وللمسلمين ، لقد أظلنا زمان تحول القارئ فيه للاهث خلف تغريدات يظنها علما ومعرفة وهي لا ترقى لأن تكون حديث مجالس في زمن يتطلب منا رفع حالة التأهب للبحث والمعرفة لأقصى درجاته . مقالتي ليست تحريضا لمحاربة هذه المواقع بل هي النذير العريان ، ولقد رأيت أناسا ممن كانوا منكبين على الكتب وحضور المحاضرات والدروس والبرامج العلمية النافعة وكتابة المقالات الرصينة والبحوث العلمية قد انهكت همتهم هذه المواقع واستولت على عقولهم وفتنوا بها . قد يقول قائل من للناس يعلمهم فأقول إن كنت أهلا لذلك فنظم وقتك واجعل لها أقل الحظ والنصيب وعليك بعيالك وأقاربك وأهل حيك وبلدك الصغير ، وأما أنت يا من في منزلة الطلب فاحذر كل الحذر أن تلهيك عن طلبك وأكثر من العزلة تجاها وسترى خيرا كثيرا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق