الاثنين، 21 أكتوبر 2013

إبراهيم نصرالله وحكاية الملهاة .

 
 
 
لا أدري ما سبب السكون الذي ينتابني حين اقرأ لإبراهيم نصر الله الروائي الفلسطيني الذي يكتب عن الملهاة الفلسطينية ، إنه سكون يصاحبه حزن بلون مائي صاف جدا ينساب بدقة متناهية نحو قلبي . حزن على فلسطين حزن على الهم الذي خبى تدريجيا وبشكل مروع ، حكايات الشتات التي نراها ونسمعها ونعيشها تحضر عند قراءة أي نص له ، إنه الفنان الذي استطاع أن يعيدنا إلى الدائرة الأولى /القضية/الهم / حق الأرض المغتصبة والأماكن المقدسة . يجلدنا بسياط رواياته وكأنه يقول القضية لم تعد ملكا لكم يا مسلمين/عرب القضية قضيتنا نحن فقط ! إن أنتم بقيتم هكذا ولسنا بحاجة لكم إن بقيتم هكذا. تعلمنا رواياته أن البسطاء هم العظماء في أرض فلسطين بينما يتيه المتعلمون والمثقفون في غابات الفلسفة وطاولات الحوار والفن الرخيص . البسطاء لا يعقدون أنفسهم بالمآلات هم يتحركون وفق ما تملي عليهم قلوبهم وعقولهم المتعلقة بالهم والقضية . استحي أن أحكي لك يا إبراهيم عن ما أريد فعله تجاه القدس وفلسطين وآل فلسطين ، ستضحك وستدفعك الضحكة لكتابة المزيد طمعا في اللاشيء ! بطل روايته تحت شمس الضحى كان بسيطا وعميقا تماما كعباراته التي يكتب .. آمنة في روايته أعراس آمنة ناضجة جدا جدا . شكرا إبراهيم.

السبت، 19 أكتوبر 2013

وفي أدبي الرياض كانت القصة المنبرية



عندما اخترقت سيارتي زحمة طريق الملك فهد ، شريان العاصمة مساء الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة لعام 31 هـ القرن الرابع عشر .بدأت بمسلسل التذمر الذي يراودني عند توقف عجلة السير ، أو السير بشكل سلحفاتي على طبقة إسفلتية حملت عليها منذ زمن أثقال الموظفين وهمومهم الصباحية والمسائية وعبث المراهقين والمراهقات ورومانسيات المحبين والمحبات أيا كان ذلك الحب.
شرعت في لعبتي الوقتية وهي تخيل حال من بداخل السيارات المجاورة لسيارتي (حزين-مهموم-سعيد-يائس-مسئول- عبثي) كل هذا وأشياء سخيفة تخطر على بالي سرعان ما أطردها وهكذا ، ثم يجمح بي الخيال إلى أن أصل لفكرة أن هؤلاء جميعاً يقصدون نفس المكان الذي أريد الذهاب إليه !
ذلك اليوم كنت متجهاً لإلقاء قصة قصيرة على لجنة التحكيم والحضور بالنادي الأدبي في الرياض بعد أن قبلت مشاركتي من ضمن المقبولين والمقبولات.
و يا للفكرة كلهم سيدخلون من باب ذلك النادي ، ثم طارت الفكرة سريعاً كما يطير حمام الحرم المكي عند اقتراب المتطفلين منه وما أكثرهم .
في النادي كنت ثالث الحاضرين من المشاركين حيث سبقني رجل وفتاة وشاب بين الطفولة والمراهقة .
سجلت اسمي ، و اقتعدت مقعداً جانبياً خارج القاعة بجانب رجل بلغ الخمسين من عمره وبجانبه شاب في بداية المرحلة الثانوية . وبادرني متسائلاً (ما جا أحد؟)
فقلت له ربما سيأتون بعد الصلاة . ثم قال لي أنت مشارك ؟
فقلت نعم فقال الله يكثر الأدباء ! ثم تحول حديثه عن شيء عجيب قال لي تصدق ذات يوم ذهبت لأتعلم على الطيران الشراعي ، فقالوا لي أن وزنك زائد وأنت بحاجة لتخفيف، وأستطرد قائلاً تصدق لو أن كل واحد في الرياض معه طائرة شراعية لخف الزحام!
فقلت له (بس شلون الواحد مشخص ورايح للدوام وشكله وهو راكب الطياره) فقهقه الشاب من جملتي الأخيرة وكأنه تخيل المشهد وبالذات منظر والده الخمسيني!
وفجأة قطع أحدهم حديثنا بندائنا للصلاة وأعتقد أنه متأثر جداً بمقولة (حج فرضك واقضب أرضك) .
بعد الصلاة طردت نفسي خارج المبنى لأستنشق بعض الهواء ولأنتظر صاحبي ولأتدرب على إلقاء النص ثلاثة في واحد، هكذا علمتني الحياة أن أجمع أكبر قدر من الأهداف في عمل واحد.
نسيت أن أقول أنه أثناء حديثي مع الرجل قبل الصلاة دخلت امرأة لا تمشي الهوينى وأشارت بيدها إلى الرجل الخمسيني الذي يقبع بجانبي مستفهمة ((الأستاذ أحمد؟)) نظر إليها ورد مسرعاً (لا ما نيب أحمد )، فتذكرت أن ذلك الاسم هو اسمي وكنت سأقول لها نعم أنا الأستاذ أحمد تفضلي !!! لكني آثرت السكوت فأنا غريب هنا ولأول مرة أزور المكان أي النادي الأدبي مع أن المبنى لا يوحي لك بأي مشاعر ربما أصابه تبلد بالمشاعر إذ يرتاد عليه شعار وروائيون ونقاد ومتسولو أدب وعمال نظافة وربما عاملات منزلية بصحبة شاعرة أو أديبة أو حتى مرافقة ، لذا اختلطت عليه المشاعر وتصلبت ردود أفعاله كالحجر الذي صنع منه .
ولا أشك أن أبا عبدالرحمن بن عقيل الظاهري قد هجا ذلك المبنى يوماً ما ، يوم أن عثرت قدمه بمقدمة المدخل.!
دخلت للقاعة التي يفصل بين نصفها الأيمن والأيسر عدة سواتر امتدت من مقدمة القاعة حتى منتصفها لتنعطف رغماً عنها نحو اليمين لتجعل النساء في معزل عن الرجال وأعينهم .
اخترت مقعداً بشكل عشوائي وكنت الوحيد الرجل الذي دخل القاعة وكانت هناك عدة نسوة يتحدثن بحديث سمعته كله حتى إن أحداهن قالت لصاحبتها ((خليني اقرأ عليك القصة حقتي )) فسمعتها كاملة قبل لجنة التحكيم ولأن ذاكرتي اسفنجية فقد نسيت كل ما دار من حديث ولله الحمد .
دخل شاب في الخامسة والعشرين من عمره ،جلس بعيداً عني نظرت إليه وهو صامت ، ولأن من أجمل هواياتي كسر الحواجز بادرته (مساك الله بالخير) رد علي التحية وقد انشرح صدره وسألته كيف الاستعداد فقال الله يستر رهبة فقلت وسع صدرك يا رجال تراها سهلة وهنا بدأت أصوات النسوة تخفت بشكل تدريجي حتى سكنت ولا أدري ما السبب ؟!
فأكملت كيف عرفت عن المسابقة؟ فقال أنها وصلته على بريده وسألني بدوره عن كيفية وصولها لي .
فقلت له عن طريق رسائل جوال النادي الأدبي وأكملت تصدق إني ما قبلت في المسابقة إلا أمس ! (واسطة قوية واللي يبي يعترض عنده الدكتور عبدالله الوشمي هو اللي متوسط لي)!
 اذكر أني قمت بإرسال قصصي الثلاث ثاني أيام العيد ولأن أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله فإن القائمين على المسابقة لم يفتحوا بريدهم الإلكتروني إلا بعد ثلاث والسنة للمسافر أن يمسح على خفيه لثلاث لذا تحولت رسالتي بشكل تلقائي إلى صندوق غير المهم ، وفقدت المشاركات وقبل يوم من بدأ المسابقة قمت بالاتصال على الدكتور الوشمي وسؤاله عن مشاركتي ونفى لي وصول مشاركاتي (وهنا ذرفت دموعي على خدي وسال جدول من الماء المالح على الأرض حتى نبتت زهرة صغيرة وحدثتني بما أحب فرضيت واستكنت وهذا هو الأدب الشعبي الخرافي).
وكان الاتصال مساء ذلك اليوم من المنسق في النادي الأدبي معتذراً ومبيناً الخطأ وقال لي ( ألحين نبي ننسق النصوص من جديد علشانك) فقلت له كان الله في عونكم .
والآن زال غضب البعض ولله الحمد لذا سأكمل:
بدأ الحضور بالتوافد جماعات وفرادى أما النساء فكالفراشات التي تبحث عن الرحيق في البساتين والرجال كالصقور التي تبحث عن فريستها الأدبية، ليظفروا بنشوة الهروب من الواقع المر بسماعهم للقصص القصيرة .
بعد أن رحب الدكتور الوشمي بالحضور وضيوف الشرف تحدث قليلاً عن فكرة المسابقة .
وقبل ذلك كان أحدهم يسخر من فن القصة القصيرة ويردد (ذهبت للبقالة واشتريت بيبسي ) هذه قصة! .
أما أنا فكنت أضحك منه وعليه في آن واحد ! إذ أن الأخ لا يعرف ما معنى القصة وما هي أدواتها وكيفية التركيز فيها على الفكرة أو الحدث أو الأشخاص أو زمان بعينه والبعد عن التفصيلات وما الفرق بين القصة الخبرية والقصة الأدبية الفنية والأقصوصة والقصة داخل القصة وما إلى ذلك من حديث لا يحق لمثلي الحديث عنه .
بدأت القصة الأولى عندما برز أول مشارك وكأني به يحدث نفسه ما الذي أتى بي هنا إذ أنه كان كبش الفداء أو كما يفعل الجلاد بالسجناء الجدد عندما يريهم أبشع المناظر عند دخولهم السجن ليخلدوا إلى تنفيذ الأوامر دون تردد ، وهكذا فعلت اللجنة مشكورة بهذا المتسابق والعجيب أن النص بأكمله لا يوجد به جمالية واحده ! هذا على مذهب اللجنة وعجبت لطريقة النقد بهذه الصورة المأساوية والذي يعرفه الجميع أن الناقد ينظر لجماليات النص قبل مساوئه ، ومن باب العلم بالشيء فإن ما كتب في هذه الفقرة لا يعبر عن رأي صاحبه بالضرورة بل عن رأي لوحه المفاتيح التي أمرت بطباعة الحروف !! ثم إن العواطف قد تلعب دوراً كبيراً في الفقرة الماضية لذا ألقوها خلفكم ظهرياً .
والحق أن اللجنة بدأت بمعايير عالية الدقة ثم تساهلت أو لنقل كلت من النقد .
ثم نودي باسمي على رؤوس الأشهاد آنذاك في أدبي الرياض و كان ضيف الشرف الدكتور عبد العزيز السبيل وبما أن القصة التي شاركت بها كتبت قبل عامين تقريبا ًتزامناً مع أحداث معرض الكتاب وكثرة الكتب الممنوعة وكثرة الباحثين عن الممنوع لمجرد المنع !
وهنا أقدم اعتذاري للقائمين على المسابقة والحاضرين ولجنة التحكيم إذ كان من المفترض أن أبذل جهداً لكتابة قصة جديدة تليق بالمسابقة ... ولكن الله قدر وجاء الإعلان متزامناً مع عيد الأضحى المبارك حيث أن الذهن مشغول بقطع الرؤوس وسلخ الجلود ورائحة الشواء واستقبال الحجاج العائدين بسلام وسؤالهم عن القطار الجديد .
وهنا (أي عند سماع اسمي ) خفق قلبي عدة خفقات سريعة ، سرعان ما عاد إلى طبيعته من خلال تمرين التنفس و الثقة العالية بالنفس .
ووقفت على المنبر وكان ما كان مما لست اذكره بتفاصيله إلا أنني عند بداية ذكري للعنوان ( مغفل في معرض الكتاب ) قهقه أحد الحاضرين في الصف الأول أظنه الروائي أحمد الدويحي ، وسرت ضحكة خفيفة بين الحضور .
وأكملت قصتي بسلام ولله الحمد والمنة .

السبت، 12 أكتوبر 2013

سياط الأسئلة !

بين كل إغماءة وإفاقة كتابية لي في السرد أو غيره أتساءل لمن أكتب ؟ هذا السؤال يقلقني حقا ! وغالبا ما تظهر لي الإجابة رمادية أو لا لون لها . أذكر حين كتبت رواية امرأة في زمن النسيان قبل أعوام كانت لغتي مباشرة جدا وألفاظي متداولة وسهلة وكانت بالنسبة لي ذلك الزمن جيدة . وقد خضت معها تجربة رائعة , كانت ردود الأفعال متباينة ، من يبحث عن السهولة والانسيابية كان معجبا بها أما النقاد ففي غالبهم كانوا ينعتونها ( سواليف ) وانا لا أنكر أن كل رواية هي سواليف / حكاية , من ضمن ردود الأفعال البكاء عند بعض المواقف في الرواية وهذا الشيء حفزني لأن تكون ناجحة بعيدا عن سياط النقد كونها حركت مشاعر القارئ وجعلته منسجما مع الحكاية حد البكاء !, لم أصل الى مرادي من المقالة حتى الآن . حين اختلطت ببعض الأصدقاء السرديين اكتشفت أنني وبلا شعور أميل لانتقاء ألفاظ معينة وأميل للرمز والغموض أحيانا , هذا ما لاحظته ولاحظة الأصدقاء في مجموعتي القصصية قطعة حلوى بعد نزوله للسوق وتداوله , كانت ردود الأفعال هذه المرة متباينة كالعادة . البعض قال إن روايتك السابقة كانت أحلى وأجمل والبعض قال الحلوى أفضل بكثير من الرواية وقد تطورت كثيرا ! الفريقان على حق الأول كان يبحث عن السهولة / المتعة / الانسجام / السواليف , والثاني تهمه الدلالة النصية والألفاظ المنتقاة والرمز والى ما يحبذه دوما مجلس أدبي الرياض ^^ . أعتقد أنني بدأت الآن بصعود أول عتبة من هدف المقالة , الكتابة نوع من أنواع الحياة , البعض يحب تعقيد الحياة والبعض يجعلها بسيطة وآخر يحبها هادئة ناهيك عن محبي الصخب . ولذا أيقنت أن على الكاتب الهاوي أن يكتب بنمط حياته وعلى المحترف أن ينوع بحسب أنماط حياة من يقرؤون له , وعلى الناقد أن يسأل السؤال التالي قبل قراءة النص ( أنت لمن تكتب ! ) , وهنا ستكون الإجابة كجسر خشبي متأرجح يوصل الناقد للحكم جزء من النص. المفاجئة أن عدد قراء امرأة في زمن النسيان كان ضخما مقارنة بالحلوى رغم أن المختصين يرون أن الحلوى أفضل أدبيا ! , ولكن الأولى كانت أقرب لنبض الشارع والمجتمع . وهنا يظهر مصطلح الرواية الشعبوية إن صح التعبير كما يقول محمد علوان . وما زال السؤال يؤرقني ( لمن اكتب ؟! ) اتمنى أن لا يقول أحد اكتب لنفسك لأن ذلك هروب !, لا داعي لأن أقول بأن السؤال موجه لمن يريد نشر كتاباته . تحيه تشبه أعينكم حين القراءة الممتعة ,,,

حمى مواقع التواصل الاجتماعي

الحمد لله الذي وهبني عمرا حتى كتابة هذه المقالة ، وأشكره على فضله حين أبان لي حقيقة مواقع التواصل الاجتماعي ولا شك أن فضائل ربي ونعمه لا تحصى . كان الناس في بلادنا لا يعرفون غير الهاتف الأرضي قبل عشرين عاما طريقة للتواصل الاجتماعي ، وكان محل إعجاب للنساء حيث أنهن محجوبات في البيوت وقد بعدت المنازل وترامت الأحياء بعد اندثار بيوت الطين التي كانت المرأة تعتلي سطح منزلها لتسامر جاراتها صباحا ، كما أنه كان ملاذ العاشقين والعاشقات ينتظرون سكون الليل لتلتصق آذانهم وخدودهم بسماعة الهاتف ، وخصص علماؤنا أوقاتا يجلسون فيها بجانب هذا الجهاز يجيبون على أسئلة الناس واستفتاءاتهم ، ناهيك عن المغتربين الذين يتشوقون لسماع أخبار أهليهم ووطنهم عبر نافذة الهواتف الأرضية ، ثم ظهرت الهواتف المتنقلة وانتشرت بين الناس فأصبح الواحد منهم لا يتمتع بعزلة ولا بخصوصية إلا من أبى وقليل ما هم ، وبدأ الناس بالاكتفاء بالمهاتفة بدلا من الزيارة والمكوث ، وظهر في المقابل برامج انترنتية تتيح للمستخدم التحدث بالصوت والصورة مع القاصي والداني مثل الماسنجر والسكايب والبالتوك وغرف المحادثة وما في معناها ، وكلما زادت هذه البرامج في انتشارها زاد الناس في انكفائهم الاجتماعي واقعا وتوسعهم في الاجتماع الافتراضي خلف أسماء مستعارة وخلق ذلك مجتمعات داخل مجتمعات بعيدة عن الواقع . ومع كل هذا إلا أن الأمر بقي محدودا وإن زاد حتى انفجرت قنبلة مواقع التواصل الاجتماعي وبرامجها (فيس بوك – تويتر –واتس أب – بلاك بيري وغيرها ) وقد فتن بها الخلق وانهالوا عليها تحميلا وتسجيلا ومسابقة ، حتى أن أحدهم يذهب نهاره وليله وعينه ملتصقة بهاتفه يتنقل بين هذه البرامج والمواقع وأقاربه بجانبه لم يفكر في زيارتهم أو الحديث إليهم منذ أشهر، ومنهم ما زاد العزلة حتى أصبح لا يرى أهله إلا وقت الأكل وحاله يد تأكل ويد تطرق في لوحة المفاتيح ! . وأصبح انقطاع خدمة الانترنت مصيبة المصائب ، ونكبة الفرد المنهمك في هذه المواقع والبرامج . وهنا بدأ تأثيرها يتسع حتى طال طلاب العلم في كل جوانبه ، فاستكانوا عن الطلب المحقق لغاية العلم وتنكبوا بسببها طرائق أهل العلم الطلب وركبوا بغلة الاقتيات على نتف هذه المواقع وضاع وقتهم ، ونسوا كثيرا مما حصلوا أيام الجد والاجتهاد يوم أن كانت هذه المواقع غائبة عنهم ، وحديثي هنا عنهم ، ولست بلائم سواهم كما هم فمن كان همه مضيعة الوقت والدعة ضيعه ولو وضعته في محاضن العلم وبين أهله !. وقد تمعنت في الأمر غير مرة فوجدتها مذهبة للرصانة العلمية مزهقة للوقت الثمين الذي يقضيه الباحث عن المعرفة في بطون الكتب وأمهات المراجع ، ناهيك عن تتبع السقط وما لم يرغبه السبع والمتردية والنطيحة وما أكثرهم . ولا تخلو هذه المواقع من فائدة يضعها بين يديك كرام الخلق هنا وهناك ولكنها لا تسمن ولاتغني من جوع ، ولا تقيم صلبا ولا تسقي حرثا بل هي فتات ربما أبقتك على مشارف الحياة متعلقا بوهم المعرفة . ولا أضر على شباب وشابات الأمة من التربي على ذلك الطلب الذي يظنونه ثقافة ومعرفة بل هو مكاء وتصدية ، والحق أن الإرث العربي سواء الديني منه أو الأدبي أو التاريخي والاجتماعي هو مصدر المعرفة والتأصيل بعد كتاب الله وسنة نبيه ، وما سمعنا عن عالم كابن تيمية أو بن حنبل أو بن حزم أو ابن خلدون يوما أنهم تخرجوا من مدارس تغذيهم جملا لا تزيد على مائة وأربعين حرفا ، ولا عن كتاتيب تعلمهم فن طرق نوافذ الإعجاب لكل ما يطرح دون نقد وتفنيد . ولقد عرض على الرافعي إمام الأدب في زمانه أن ينقح كتابا في شرح (أدب الكاتب لابن قتيبة ) والكتاب لعالم اللغة الجواليقي فكان يقعد كل يوم ست ساعات في البحث والتدقيق والمراجعة وإكمال ما نقص من الشعر وغيره ، وحال أحدنا يقعد على نافذة أحد مواقع التواصل الاجتماعي ويعتقد أنه بعد زمن سيكون المغير الأعظم للتاريخ . اعلم أن نفسي تضحك مني وعلي وهي تراني أتبجح بما أكتب أعلاه وتقول لي (باب النجار مخلوع ) ولكنها النصيحة لي وللمسلمين ، لقد أظلنا زمان تحول القارئ فيه للاهث خلف تغريدات يظنها علما ومعرفة وهي لا ترقى لأن تكون حديث مجالس في زمن يتطلب منا رفع حالة التأهب للبحث والمعرفة لأقصى درجاته . مقالتي ليست تحريضا لمحاربة هذه المواقع بل هي النذير العريان ، ولقد رأيت أناسا ممن كانوا منكبين على الكتب وحضور المحاضرات والدروس والبرامج العلمية النافعة وكتابة المقالات الرصينة والبحوث العلمية قد انهكت همتهم هذه المواقع واستولت على عقولهم وفتنوا بها . قد يقول قائل من للناس يعلمهم فأقول إن كنت أهلا لذلك فنظم وقتك واجعل لها أقل الحظ والنصيب وعليك بعيالك وأقاربك وأهل حيك وبلدك الصغير ، وأما أنت يا من في منزلة الطلب فاحذر كل الحذر أن تلهيك عن طلبك وأكثر من العزلة تجاها وسترى خيرا كثيرا .